من فقه الجهاد (3)
الحكمة من قبول الفداء
11 / 8 / 2016
أبو ياسر السوري
============
تكلمنا في المقالين السابقين عن اثنين مما خيرنا الله في الأسرى ، وهما خيار (القتل) و(المن) والآن نتحدث عن (فداء الأسرى) .. فنقول :
أما قبول الفداء من الأسرى :
فقد علمنا أن رسول الله قبل الفداء من أسرى المشركين في غزوة بدر وأطلق سراحهم ، وعاتبه الله في ذلك، مع أنه مثاب مأجور، فقد بذل صلى الله عليه وسلم جهده ، واستشار أصحابه ، ثم اختار ما رأى فيه مصلحة للإسلام والمسلمين .
فرجَّحَ صلى الله عليه وسلم في ذلك مصلحة التقارب من قريش ، وهم الأهل والعشيرة ، وقدَّر أن يكون في قبول الفداء منهم مصلحةٌ مستقبلية للدعوة الإسلامية ، فرأى أن يمنح قريشا فرصة جديدة لمراجعة حساباتها ، لعل الله يشرح صدور صناديدها إلى الإسلام ، فتؤمن قريش تبعا لهم ، ومتى اعتنقت قريش الإسلام ، كانت بقية القبائل العربية لهم تبعا في ذلك ..
ثم إن هنالك مصلحةً أخرى أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتبار ، فقد نظر صلى الله عليه وسلم في قبول الفداء إلى حال فقراء المهاجرين ، وأحب أن يرفدهم بما يأخذه من أموال الفداء ، ويخفف من معاناتهم . وهكذا قدم صلى الله عليه وسلم هذه المصالح على مصلحة شفاء الصدور بالانتقام من قريش ..الذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعادوه وأخرجوه هو وأصحابه من بين أظهرهم .
ومما لا شك فيه ، أن من أصحابه صلى الله عليه وسلم من كان يتمنى لو أنها ضُرِبَتْ أعناقُ أولئك الجبابرة ، ليفرحوا بهلاكهم ، وليعلم من وراءهم أن كلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى . ولكنه صلى الله عليه وسلم غلَّبَ مصلحة انتشار الدين ، ومصلحة فقراء المهاجرين ، على رغبات قلَّةٍ من أصحابه كانوا يميلون إلى أخذ المشركين بالشدة ، غضبا لله ورسوله .
ذكر كتاب السيرة النبوية " أنه لما كان يومُ بدرٍ وجيءَ بالأسرى ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هؤلاءِ الأسرى ؟ فقال أبو بكرٍ : يا رسول اللَّهِ قومُكَ وأهلُكَ ، استَبْقِهِمْ واسْتَأْنِ بِهِمْ ، لعلَّ اللَّهَ أن يتوبَ عليهِم ، وقال عمرُ : يا رسولَ اللَّهِ كذَّبُوكَ وأخرجُوكَ ، قدِّمهُمْ فاضرِبْ أعناقهمْ ، وقال عبدُ اللَّهِ بنُ رواحةَ : يا رسولَ اللَّهِ ، انظُرْ وادِيًا كثيرَ الحطَبِ فأدخلهُمْ فيهِ ، ثم أضرمهُ عليهمْ نارًا ، قالَ : فقالَ لهُ العبَّاسُ : قطعتَ رحمكَ . قالَ : فسكتَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُجِبْهُمْ ..
ثم دخلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالَ ناسٌ : يأخذُ بقولِ أبي بكرٍ ، وقالَ ناسٌ : يأخذُ بقولِ عمرَ ، وقال ناسٌ : يأخذ بقولِ عبدِ اللَّهِ بنِ رواحةَ . ثم خرج عليهم رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : إنَّ الله ليُلينُ قلوبَ رجالٍ حتَّى تكونَ ألينَ منَ اللَّبنِ ، وإنَّ اللَّهَ ليُشِدِّدُ قلوبَ رجالٍ حتَّى تكونَ أشدَّ منَ الحجارَةِ ، وإنَّ مَثَلَكَ يا أبا بكرٍ مَثَلُ إبراهِيمَ ، قالَ : " فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" وَمَثَلَكَ يا أبا بكرٍ مَثَلُ عيسَى ، قَالَ : "إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " وَمَثَلَكَ يا عمرُ مَثَلُ نُوحٍ قالَ : "رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا " وَمَثَلَكَ يَا ابنَ رواحةَ كَمَثَلِ موسَى ، قالَ : " رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ " . قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَنْتُمُ الْيَوْمَ عَالَةٌ " أي فقراء " فَلاَ يَنْفَلِتَنَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلاَّ بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبِ عُنُقٍ ) .
فانظروا إلى قوله صلى الله عليه وسلم " أَنْتُمُ الْيَوْمَ عَالَةٌ فَلاَ يَنْفَلِتَنَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلاَّ بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبِ عُنُقٍ ) فذكر لهم أن قبوله بالفداء كان رحمة بهم لأنهم عالة فقراء . وسكت عن جانب رحمته صلى الله عليه وسلم بالمشركين ، حيث منحهم فرصة ليسلموا ، وينجوا من القتل في الدنيا ، ومن عذاب النار في الآخرة .
***