من فقه الجهاد(6)
تتبدل الأحكام المبنية على العرف بتبدل ذلك العرف
30 / 8 / 2016
بقلم : أبو ياسر السوري
==============
العرف والمعروف: كل خصلة حسنة ترتضيها العقول ، وتطمئن إليها النفوس . قال الحطيئة :
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه : لا يذهب العرف بين الله والناس
وقد جاء الإسلام فأقر بعض الأعراف السائدة في المجتمع ، ورد بعضها الآخر . وتعامل مع الأعراف تعامله مع الأخلاق ، أقر صالحها ، وتمم مكارمها ، ورفض فأسدها . ومن هنا كان ما وافق عليه الشرع من العرف معتبرا ، وما . لا .  فلا . 
وقد نص علماء الأصول على أن مصادر التشريع منها ما هو أصلي ، ومنها ما هو تبعي .. وحصروا المصادر الأصلية في [ الكتاب والسنة والإجماع والقياس ] .. وذكروا المصادر التبعية للتشريع ، على خلاف بينهم فيها .. فقالوا هي :[ الاستحسان – الاستصحاب – الاستصلاح أو المصالح المرسلة – العرف – مذهب الصحابي – شرع من قبلنا – مبدأ سد الذرائع ] ..
فالعرف كما ترى هو أحد مصادر التشريع التبعية في الإسلام .. وهو الشيء المعروف المألوف ، وهو رديف العادة عند الأصوليين . يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله : " العادة والعرف ما استقر في النفوس من جهة العقول ، وتلقته الطباع السليمة بالقبول ". وقد يغير العرف معنى بعض الألفاظ ، فينقلها من معناها القديم إلى معنى مستحدث .. وفي هذه الحال يكون العرف مرادفا للمصطلح .
ومن أفراد هذا العرف الاصطلاحي ، لفظ " السيارة " مثلا .  فقد كانت تطلق قديما ويراد بها مجموعة من الرفقة المسافرين على الجمال مع بعضهم للتعاون على ما قد يعترضهم من مخاطر الطريق قال تعالى :
" يلتقطه بعض السيارة " .. فإذا ورد اليوم لفظ " السيارة " في أحد العقود ، انصرف عرفا إلى السيارة المعروفة للناس في زماننا الحالي ، وهي العربة التي تسير بمحرك آلي ، وتتحرك على أربع عجلات ، لا السيارة المعروفة قبل آلاف السنين .
ومن أمثلة هذا العرف أيضا : أن يَتَعَارَف أهل بلد على حصر معنى كلمة (اللحم) في لحم الضأن فقط .. وبناء عليه لو حلف أحدهم أن لا يأكل لحما ، فلا يحنث إن أكل سمكاً ، مع أن السمك مذكور في القرآن على أنه  لحم ، قال تعالى : [ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ] ولكن العرف خصص اللفظ بلحم الضأن دون السمك ، وكان هذا التخصيص معتبرا في الشرع ..  
ولكي يكون العرف معتبرا ، يشترط فيه أن لا يصادم نصا من الكتاب أو السنة . فما صادم منه الكتاب والسنة فهو عرف فاسد لا يعمل به ..
***
ولما جاءت البعثة المحمدية على صاحبها الصلاة والسلام ، ألغى الإسلام كثيرا من الأعراف السائدة آنذاك ، نذكر منها ما يلي :
1 – التبني : فقد جاء الإسلام وعُرْفُ الناس في الجاهلية أنَّ الرجل إذا تبنَّى ابن غيره صار المُتبنَّى كابنِهِ الحقيقيّ في المعاملة والميراث وتحمل الدية والقصاص والتبعات . وقد تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة قبل البعثة . ثم أبطل الله هذا العُرْفَ . وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يطالب متبناه زيداً بطلاق زوجته ، ثم يتزوجها هو صلى الله عليه وسلم ، ليثبت للناس عمليا أن الإسلام حرم التبني تحريما قاطعا ، لا رجعة فيه ، ولو لم يبطله لما تزوج رسول الله من طليقة زيد بن حارثة ، الذي كان يدعى زيد بن محمد قبل ذلك . حتى نزل قوله تعالى : " وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ* " .. ثم بين الله تعالى الحكمة من أمره نبيَّهُ بالزواج من مطلقة زيد بقوله "  لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ " ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ " مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ " ..
2 – ومن أمثلة العرف الذي ألغاه الإسلام " الظهار " فكان الرجل إذا غضب من زوجته أو كبر سنها ، قال لها : " أنت علي كظهر أمي " فيهجرها ، ويتركها معلقة ، لا متزوجة ولا مطلقة .. فألغى الله هذا العرف الجاهلي ، لما فيه من ظلم للمرأة ، وامتهان لها .
عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : ذُكِرَ لَنَا أَنَّ خُوَيْلَةَ ابْنَةَ ثَعْلَبَةَ وَكَانَ زَوْجُهَا أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ قَدْ ظَاهَرَ مِنْهَا ، فَجَاءَتْ تَشْتَكِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : ظَاهَرَ مِنِّي زَوْجِي حِينَ كَبِرَ سِنِّي ، وَرَقَّ عَظْمِي . فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا مَا تَسْمَعُونَ : " قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ* الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ* وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * " وهكذا ألغى الإسلام عرف الناس في الظهار وحرمه .
3 – ومن الأعراف التي ألغيت في ديننا (فاحشة الزنا) : فقد كان الزنا مما أباحه العرف العام في أهل الجاهلية قبل الإسلام ، وكان أمرا عادياً يمارسه الشباب منهم والشيب . وكان له بيوت مخصصة ، يعترف بها المجتمع ويقر بمشروعيته دون نكير ، وكانت تُعلق على أبواب بيوت البغايا رايات حمراء يعرفهن بها الباحثون عن الخطيئة ..
فجاء الإسلام فحرم الزنا ، وألغى هذا العرف السائد . وأغلق باب الخطيئة ، وعاقب من يقع فيها بعقوبات رادعة سميت حد الزنا ، بجلد الزانية والزاني قبل الإحصان مائة جلدة ، ورجمهما بعد الإحصان بالحجارة حتى الموت .
4 – ومن الأعراف الجاهلية الملغية في الإسلام " طواف الناس عراة حول الكعبة " وكان العرب - ما عدا قريشًا - لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها .. أما قريش فهم وحدهم الذين يسمح لهم بالطواف حول الكعبة في ثيابهم .. في الوقت الذي لا يسمح فيه لغيرهم بأن يطوف بالبيت إلا بثوب جديد لم يعص الله فيه ، أو بثوب أعاره إياه قرشي .. فمن لم يجد ثوبًا جديدًا ولا أعاره قرشي ثوبًا ، طاف بالبيت عريانًا. وغالبا ما كانت المرأة تطوف عريانة بالليل ، فتجعل على فرجها شيئًا يستره بعض الشيء وتقول :
اليوم يبدُو بعضُه أو كلّه  :  وما بدَا منه فلا أحلّهُ
وكان هذا شيئًا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم معتقدين أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع، حتى صار عرفا عاما لهم .. فأنكر الله تعالى عليهم ذلك ، فقال سبحانه: ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ) فأمر الله نبيه أن يقول لمن ادعى ذلك : هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة و ( إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * ) ... ثم أذن مؤذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" لا يطوفنَّ بالبيت عُريان " .
***
وأما العرف الذي أقر في الإسلام فأمثلته المعتبرة كثيرة ، ويلاحظ أنه أقر بعضها لأنها من مكارم الأخلاق ، وبعضها لأنه يلبي حاجة ماسة ، وبعضها الآخر لأنه لا يترتب عليه ضرر اجتماعي وليس مضاداً لروح الشريعة الإسلامية ..  من ذلك :
1 – ما تعارف عليه الناس من الوفاء بالعهد ولو أدى ذلك إلى موت الموفي به ، لأن هذا من مكارم الأخلاق . ومثله كل خلة كريمة كان يتحلى بها العرب في جاهليتهم ، كإكرام الضيف ، وصدق الحديث وإغاثة الملهوف ونصرة الضعيف .. ومن أصرح ما يشير إلى إقرارها قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " .. وربط ذلك بمرضاة الله تعالى ، بعدما كانت طلبا للمحمدة عند الناس ..
2 – كان بيع السلم أو السلف من البيوع المتداولة بين الناس ، وقد أبيح في الإسلام استثناء من نهيه صلى الله عليه وسلم " لا تبع ما ليس عندك " وسبب إقراره أن الناس كانوا يتبايعون به تلبية لحاجة مشتركة بين البائع والشاري ، فصاحبُ رأسِ المال محتاجٌ إلى أن يشترى الثمرة ، وصاحبُ الثمرة محتاجٌ إلى ثمنها قبل إبانها لينفقه عليها، ومن هنا كان السلف يُسمَّى عندهم  بيعَ المحاويج ..
3 – أقر الإسلام كل ما كان متعارفا عليه بين الناس من بيوع وعقود " عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه الصُّلْحُ جَائِزٌ بين الْمُسْلِمِينَ إلاَّ صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أو حَرَّمَ حَلاَلاً " . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " كل ما لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم ، فما سموه بيعاً فهو بيع وما سموه هبة فهو هبة " .
4 – كل ما جاء في القرآن الكريم أو السنة المطهرة مقيدا بالمعروف ، فيرجع في تقديره إلى العرف والعادة بين الناس .. من ذلك قوله تعالى : " وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ " وقوله تعالى " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف" .. وجاء في السنة النبوية " أن هنداً زوجة أبي سفيان حين شكت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن زوجها لا يعطيها وابنها ما يكفيهم " فقال لها صلى الله عليه وسلم خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف "
فهذه النصوص المقيدة ( بالمعروف) أحالت الناس إلى العرف في تحديد أجرة المطلقة المرضع ، وأحالتهم إليه في تحديد مقدار ما يأكل ولي اليتيم من مال اليتيم ، وهو أن يأكل ويرد ما أكل إذا أيسر ، لقوله تعالى " فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا " وأحالت الزوجة الشاكية من قلة النفقة أن تأكل وولدها بمقدار ما يسمح به العرف ..
5 – معاملة الأسرى بالمثل كانت بناء على عرف سائد:
فقد كان عرف العرب فيما بينهم ، أنهم إذا أخذوا الأسير استرقوه أو قتلوه أو قبلوا فيه الفداء وربما منُّوا عليه وأطلقوه بدون مقابل ..
فجاء الإسلام فعامل أعداءه بهذا العرف السائد ، تطبيقا لمبدأ المعاملة بالمثل ، وهو مبدأ يحقق العدالة ويرضي سائر الأطراف . والأمر فيهم موكول إلى قادة المعارك ، فهم مخيرون في الأسرى وفق مصلحة المسلمين بين [المنّ أو الفداء أو القتل أو الاسترقاق] .
وما يعنينا هنا هو القول بأن أحكام الأسرى في الإسلام جاءت مبنية على عرف سائد بين المتحاربين في ذلك الزمن .. لأن روح الإسلام ميالة إلى إبقاء الناس أحرارا مكرمين كما كانوا يوم ولدتهم أمهاتهم، فأما الكرامة فالأصل فيها قوله تعالى" ولقد كرمنا بني آدم " وأما الحرية فقد جرى تقريرها والاستنكار على من اعتدى عليها على لسان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا "  ومعلومٌ لا يكون الإنسان مكرما إلا إذا كان حُرَّا ..
ومن هنا ، نلاحظ أن إقرار الإسلام بالرق كان إجراء عمليا فرضته الضرورة ، مراعاة  لعرف سائد في العالم كله تقريبا ، كان يقضي بأن المحارب الأسير يُستعبد  ويباع في سوق النخاسة .. فلم يكن بدٌّ للمسلمين من معاملة أعدائهم بالمثل .. ولكن الإسلام رغم ذلك ، فتح أبواب التحرير على مصراعيه ، فندب المسلمين إلى عتق الرقاب ، وألزمهم بعتقها في الكفارات . وبشر بالثواب الجزيل على ذلك ..
ولما تغير هذا العرف، واتفق العالم على احترام حرية البشر، وتداعوا  إلى تحريم الرق ، كان المسلمون أول من أجاب إلى ذلك ..
ولو تغير هذا العرف حاليا ، وعاد الحال إلى ما كان عليه قبل الإسلام ، فسوف يتغير الحكم في الأسرى ، ونعود فيهم إلى الخيارات الأربعة التي جاءت في القرآن ( المنّ أو الفداء أو القتل أو الاستعباد ] ..   
وكذلك الشأن في بقية صور الأحكام المبنية على العُرف ، فهي كلها قابلة لأن تدور مع العُرف حيث دار .. فلو تغير عُرفُ الناس بالنسبة لأجر المرضع المطلقة على تحديد مبلغ معين ، أو تعارفوا على تحديد مقدار ما يسمح للولي أكله من مال اليتيم ، أو تعارفوا على أن تأخذ الزوجة من مال زوجها مبلغا معينا دون علمه .. فعندها يتغير المراد من قوله تعالى " بالمعروف " إلى ما حدده العرف الجديد . تطبيقا للقاعدة القائلة [ تتبدل الأحكام المبنية على العرف بتبدل ذلك العرف ] ..
هذا والله أعلم