عبد الباري عطوان
رئيس تحرير القدس العربي
17.5.2011

في ظل الأزمة الكبرى التي يعيشها النظام السوري تبدو استراتيجيته في النطاق الإعلامي معتمدة على خطين متوازيين، الأول منهما كم الأفواه وقمع الصحافيين الأحرار وزجهم في السجون، وطرد المراسلين لمنع أي حقيقة من مغادرة الحدود السورية، وشن حرب على وسائل الاعلام واتهامها بالعمالة والتآمر. وفي الخط الثاني يطرح النظام السوري حملة إعلامية شرسة عبر اعلامه الحكومي وشبه الحكومي وعبر تجييش مثقفي السلطة والفنانين وحتى علماء الدين لترويج رواياته وأكاذيبه عما يجري في سورية. بعض هذه الروايات تبدو ساذجة، كاعترافات العصابات المزعومة التي يظهر فيها بعض البسطاء من الناس يقرؤون عبارات الإعلام السوري عن مؤامرات سلفية للتخريب والقتل على انها اعترافاتهم ومخططاتهم، ومن خبرتي في الإعلام المرئي أقول إنه من الطرافة بمكان أن أحدا من هؤلاء المعترفين لم يظهر على الشاشة من دون ماكياج واضح على الوجه، لا لأنهم نجوم حريصون على 'البريستيج'، ولكن لإخفاء معالم التعذيب على الوجوه التي تحدثت عن نفسها، حتى من وراء أكوام البودرة والكريمات، إضافة إلى المونتاج الفاشل والاقتطاع من مشاهد غالبا ما يزعم التلفزيون السوري أنها مباشرة. احتجاجات مظلومة عدا ووصفا في دعاية النظام بعض الأمور التي تستحق الوقوف عندها لتفصيل ما قد يلتبس من استخدامها وتوظيفها نبدأ من أكثرها رواجا مؤخرا، وهو الحديث عن نسبة المتظاهرين في ملايين الشعب السوري وهو طرح مبني على محاولة القول بان من لم يتظاهر ضد النظام فهو مؤيد له، وهي فكرة باطلة من أساسها في لغة المنطق السليم، فالصمت لا يعني التأييد لا سيما في مجتمع تحيط بأفراده جدران الخوف والرعب، لم تغادر الناس فيه ذكريات المجازر الجماعية على مدار عقود، ويزداد هذا الطرح فسادا في ظل الصورة الواضحة لتعامل النظام مع الاحتجاجات، فالجواب السريع على أي صرخة بالحرية هو الرصاص الحي والاعتقال والتعذيب، الذي شاهد السوريون منه ألوانا تعجز عن مثلها أعتى أنظمة القمع، وفي هذه الظروف يواصل السوريون احتجاجهم في مشهد من البطولة يبدو أشبه بحمل الأكفان في سبيل الحرية. نضيف إلى هذا نقطة أخرى أن هذه التظاهرات شملت كامل الرقعة الجغرافية السورية، وهي تمتد من درعا ودمشق وريفها في الجنوب وصولا إلى حمص وحماة في الوسط واللاذقية وجبلة وبانياس في الساحل وإدلب والقامشلي والحسكة شمالا ودير الزور والبوكمال شرقا وترد صور المظاهرات معنونة بعشرات الاسماء للمدن والقرى التي يبدو عدها جمعا لمظاهرة من أسماء المدن.. وفي هذه الصورة العامة هناك مشاهد خاصة لمدن وقرى خرجت بكاملها من دون أن يتخلف احد من أبنائها، مستعينة بظروفها الاجتماعية التي يأمن فيها السكان بعضهم البعض، نذكر منها درعا وجاسم ونوى وانخل وطفس ودوما والمعضمية وداريا والرستن وتلبيسة وتلكلخ وبانياس وغيرها، ولذلك لم يجد النظام بدا من مداهمة جميع هذه المناطق بالدبابات لطمس الصورة الحاشدة لتظاهراتها. أما آخر ما نذكره هنا فهو غياب التغطية الاعلامية عن سورية وعجز أبناء الكثير من المناطق، لا سيما الريفية منها عن إظهار صورة احتجاجاتهم وقد خرجت بعض المدن والقرى عن بكرة أبيها في مظاهرات نقلت لنا بالتواتر السمعي ومقاطع الفيديو، من دون ان يظهر لها أثر يذكر في وسائل الاعلام كما هو الحال في الضمير وكناكر. شعب واحد ام شعوب؟يبث النظام في دعايته مخاوف من اقتتال طائفي قد ينتهي بتقسيم البلاد أو بمعارك للثأر تحاسب فيها الطائفة العلوية على مجازر النظام وجرائمه.. والحقيقة الواضحة للجميع هي الوعي العالي لدى الشعب السوري، الذي صدرت احتجاجاته بشعارات ولافتات الوحدة الوطنية. ولكن وعي الشعب هذا واحتقاره للطائفية ونبذها لا يلغي حقيقة أن النظام قام في بنيته على أساس من الاوليغاركية العائلية التي صحبت مسيرته منذ وصول عائلة الاسد للسلطة، حيث أصبح اكثر من 80 بالمئة من مناصب القيادة في الدولة والجيش والاستخبارات بيد عائلة الرئيس والمقربين منه، ونذكر أسماء بعضهم مثل العقيد رفعت الأسد شقيق حافظ الأسد والعماد إبراهيم الصافي ابن خالته و ابن عمته العماد علي أصلان وصهره العماد آصف شوكت والعماد علي دوبا والعماد شفيق فياض وابن عمه اللواء عدنان الأسد واللواء علي حيدر واللواء محمد ناصيف واللواء محمد الخولي واللواء بهجت سليمان واللواء حكمت ابراهيم واللواء علي حماد واللواء علي حوري واللواء عدنان مخلوف، وتمتد القائمة وتتسع في عهد بشار ليظهر فيها إلى السطح شقيقه العميد ماهر الاسد في الحرس الجمهوري وابن خاله العميد حافظ مخلوف في الاستخبارات العسكرية وابن خالته عاطف نجيب واللواء علي مملوك في المخابرات العامة والعماد علي حبيب وزير الدفاع واللواء ابراهيم حويجة واللواء حسن خليل واللواء عدنان حسن وأسماء كثيرة، إضافة إلى تخصيص بعض الفرق العسكرية لتكون من أبناء الطائفة العلوية في معظمها كالفرقة الرابعة (سرايا الدفاع سابقا) والحرس الجمهوري وهي محاولة من النظام للظهور بمظهر الممثل للطائفة العلوية أو المتحدث باسمها، غير أن طائفية النظام هذه بجمع العائلة وبعض المقربين من أبناء الطائفة في سدة الحكم تنحصر في بنيته ولا تتجاوزه لتشمل الطائفة العلوية التي تعرضت كغيرها بأفرادها وعائلاتها منذ وصول آل الأسد للسلطة لجرائم النظام وقمعه، بدءا من شركائه السابقين كصلاح جديد ومحمد عمران في بدايات عهد حافظ الأسد، وصولا إلى اللواءغازي كنعان الذي شكلت طريقة اعدامه (ما وصف بالانتحار) بذرة لاشتباكات شهدتها القرداحة معقل الرئيس بين عائلة كنعان وشبيحة آل الأسد مع بداية الاحتجاجات. وفضلا عن عشرات الضباط العلويين الذين تمت تصفيتهم وقمعهم خلال فترة حكم هذا النظام تعرض العديد من المثقفين العلويين للقمع والاضهاد نفسه بين السجون والتهديد، ونسمع اليوم أصواتا علوية عالية تعارض سياسات النظام منها عارف دليلة ونزار نيوف ووحيد صقر وخولة دنيا وأكثم نعيسة وثائر ديب وغيرهم كثير، مما يثبت الفرق بين الطائفة العلوية التي تنتمي للشعب وهي جزء أساسي منه ومن بعض الفاسدين من أقارب الرئيس ومحيطه ممن يبني عليهم النظام كيانه الطائفي الضيق، وهنا لا يبدو عجيبا أن يحذر الطائفيون في النظام من حروب طائفية تعاقب على جرائمهم التي يحاولون تعميمها من منطلق واقعهم الطائفي لا واقع الطائفة أو الشعب.