أمين سر الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
حذيفة بن اليمان رضي الله عنه
بقلم : أبو ياسر السوري
25 – 8 – 2016
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كنت أحب السيرة النبوية ، وأسعد بالحصة المخصصة لها أيام كنا طلابا في المرحلتين الإعدادية والثانوية في المدرسة الخسروية بحلب. ويومها كان الشيخ عبد الوهاب سكر رحمه الله هو أستاذ هذه المادة ..
كانت حصته من أمتع الحصص .. فقد حباه الله سمتا مهيبا . ووجها حبيبا، وإلقاء عجيبا، وسردا للأحداث والمواقف فيه التشويق والتدقيق والتحقيق ، وكنا نحضر الدرس وكلنا آذان صاغية ، وقلوب واعية . ناهيك عن موضوع المادة ، التي هي رصد لنفحات روحانية كنا نتنسمها عند ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه ، فنحس وكأننا بينهم ، نعيش معهم ، ونصغي لكلامهم ، ونرى أشخاصهم ، ونعجب بمواقفهم ، وأدبهم ، وكلامهم ، وفعالهم ، وحبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحبه لهم ..
وكنا كلما اطلعنا على سيرة واحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم ظننا أنه كوكب لا مثيل لألقه ، ونجم لا شبيه لضيائه .. وكان ممن اطلعنا على سيرته من هؤلاء الصحب الكرام حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه .
وأول ما تردد إلى سمعي مما يخص حذيفة أنه كان أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأن عمر رضي الله عنه ناشده أن يخبره إن كان من المنافقين أم لا .؟ فقال حذيفة : لست منهم يا عمر ، ولن أزكي أحدا بعدك . فكان عمر لا يصلي على أحد مات إلا إذا صلى عليه حذيفة رضي الله عنهما . لأن الله نهى نبيه أن يصلي على المنافقين ، أو أن يشهد جنائزهم ، قال تعالى " وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ* "
قيل لحذيفة : كيف عرفت أمر المنافقين و لم يعرفه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ولا عمر .؟
قال : إني كنت أسير خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنام على راحلته ، فسمعت بعضهم يتهامسون بينهم يقولون : لو طرحناه عن راحلته ، فاندقت عنقه فاسترحنا منه ." يقصدون رسول الله "
فسرت بينهم و بينه ، و جعلت أقرأ و أرفع صوتي ، فانتبه النبيُّ صلى الله عليه وسلم  .
فقال : " من هذا " ؟
قلت : حذيفة
قال : " من هؤلاء " ؟ 
قلت : فلان و فلان حتى عددتهم
 قال : " أو سمعت ما قالوا " ؟
قلت : نعم ، و لذلك سرت بينك و بينهم ، خوفا عليك منهم .
قال : " فإن هؤلاء فلانا و فلانا ـ حتى عد أسماءهم ـ منافقون لا تخبرن أحدا " .
فمنذ ذلك الحين حمل حذيفة سر رسول الله في المنافقين، فعلم من أمرهم ما خفي على الآخرين .
وليست هذه المزية الوحيدة لحذيفة ، فقد كان من أجمع الصحابة لأخبار الفتن ، التي ستعترض طريق الأمة في مستقبل الأيام .. عن أبي إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول : كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني " . وهذا ما جعله مرجعا في أخبار الفتن . وكان رضي الله عنه يقول : أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة. فما منه شيء إلا قد سألته. إلا أني لم أسأله: ما يخرج أهل المدينة من المدينة .؟
وثالثة لحذيفة رضي الله عنه ، لعلها واسطة العقد بين مزاياه ، ألا وهي اختياره ليدخل بين المشركين يوم الأحزاب ، فيأتي رسول الله بأخبارهم دون أن يحدث حدثا ..
قال حذيفة: والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويا من الليل ثم التفت إلينا فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم " يعني جيش الأحزاب " ؟ ثم يرجع ، أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة؟
قال حذيفة : فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع والبرد. فلما لم يقم أحد دعاني فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني فقال: يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يفعلون ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا.
قال فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه .؟  قال حذيفة فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت: من أنت .؟ قال: فلان ابن فلان .
ثم قال أبو سفيان : يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من شدة الريح ما ترون ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء .. فارتحلوا فإني مرتحل . ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم. ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي أن لا تحدث شيئا حتى تأتيني لقتلته بسهم. قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مرحل، فلما رآني أدخلني إلى رجليه وطرح علي طرف المرط . ثم ركع وسجد وإني لفيه .. فلما سلم أخبرته الخبر .. وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم ..
لقد حضر حذيفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها ما عدا معركة بدر .. واستمر مجاهدا في سبيل الله تعالى حتى شارك في فتح نهاوند فلما قتل النعمان بن مقرن المزني أمير ذلك الجيش أخذ الراية؛ وكان فتح همذان والري والدينور على يده وشهد فتح الجزيرة.
وفي خلافة عمر رضي الله عنه وقع اختيار عمر على حذيفة ليرسله أميرا على المدائن  عاصمة كسرى أنو شروان، وفيها قصره وإيوانه .
قال ابن سيرين كتب عمر في عهده لحذيفة على المدائن " أرسل إليكم حذيفة بن اليمان أميرا عليكم ، فاسمعوا له وأطيعوا وأعطوه ما سألكم ".. فخرج حذيفة  من عند عمر على حمار، فلما وصل المدائن ، قالوا له: سل ما شئت أيها الأمير؟ قال حذيفة: أسألكم طعاما آكله ، وعلف حماري هذا ما دمت فيكم . 
لم يسكن حذيفة في قصر كسرى ، بل تجافى عنه وتحاشاه ، ليبقي هذا الإيوان فارغا تنعب فيه البوم والغربان ، إلى أن  زاره البحتري الشاعر يوما فما سمح فيه سوى صفير الريح وسكون الخراب ورهبة الموت الذي لحق بكسرى وجبروته ... فتخيل البحتري ما كان عليه ذلك الإيوان ، وما صار إليه .. فنظم سينيته المشهورة فأبدع فيها أيما إبداع حيث قال :
صُنْتُ نَفْسِي عَمّا يُدَنّس نفسي : وَتَرَفّعتُ عن  جَدا  كلّ  جِبْسِ
وَتَماسَكْتُ حَينُ زَعزَعني الدّهْـ ـرُ التماساً منهُ لتَعسِي، وَنُكسي
وَلَقَدْ  رَابَني   نُبُوُّ  ابنِ  عَمّي : بَعد  لينٍ  من   جانبَيهِ  وأُنْسِ
وإذا  ما جُفيتُ  كنتُ  جديَرّاً : أنْ أُرَى غيرَ مُصْبحٍ حَيثُ أُمسِي
حَضَرَتْ رَحليَ الهُمُومُ  فَوَجّهْـ ـتُ إلى  أبيَضِ  المَدائنِ  عُنْسِي
أتَسَلّى عَنِ  الحُظُوظِ  وَآسَى  : لَمَحَلٍّ  من  آلِ  ساسانَ   دَرْسِ
أذَكّرْتَنيهمُ  الخُطُوبُ  التّوَالي : وَلَقَدْ   تُذكِرُ  الخُطوبُ   وَتُنسِي
ولد حذيفة في مكة .. وسكن في المدينة .. ومات في المدائن سنة 36 هـ
رحل أبوه فسكن يثرب قبل الإسلام ، فلما بعث الله نبيه كان اليمان ممن بايعه عند العقبة مع من بايع من الأنصار .. قال حذيفة فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمن المهاجرين أنا أم من الأنصار .؟ قال : أنت من المهاجرين والأنصار يا حذيفة ..
 
 

..